كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قلت: فقد أقول: مررت برجل قام فضرب زيدا، فكيف جاز العطف هنا؟ قيل: إنما عطفت صفة على صفة، ولم تعطف الصفة على الموصوف من حيث كان الشيء لا يعطف على نفسه لفساده.
ومن ذلك قراءة عبد الله بن مسلم بن يسار وأبي زرعة بن عمرو بن جرير: {بِأَرْبَعَةٍ شُهَدَاء} بالتنوين.
قال أبو الفتح: هذا حسن في معناه؛ وذلك أن أسماء العدد من الثلاثة إلى العشرة لا تضاف إلى الأوصاف، ولا يقال: عندي ثلاثة ظريفين إلا في ضرورة إلى إقامة الصفة مقام الموصوف، وليس ذلك في حسن وضع الاسم هناك، والوجه عندي ثلاثة ظريفون. وكذلك قوله: {بِأَرْبَعَةٍ شُهداءَ} لتجري {شهداء} على {أربعة} وصفا؛ فهذا هذا.
فأما وجه قراءة الجماعة: {بِأَرْبَعَةِ شُهداءَ} بالإضافة فإنما ساغ ذلك لأنهم قد استعملوا ال {شهداء} استعمال الأسماء؛ وذلك كقولهم: إذا دفن الشهيد صلت عليه الملائكة، وعد الشهداء يومئذ فكانوا كذا وكذا، ومنزلة الشهيد عند الله مكينة. فلما اتسع ذلك عنهم جرى عندهم مجرى الاسم؛ فحسنت إضافة اسم العدد إليه حسنها إذا أضيف إلى الاسم الصريح أو قريبا من ذلك.
واعلم منْ بَعْدُ أن الصفات لا تتساوى أحوالها في قيامها مقام موصوفاتها، بل بعضها في ذلك أحسن من بعض، فمتى دلت الصفة على موصوفها حسنت إقامتها مقامه، ومتى لم تدل على موصوفها قبحت إقامتها مقامه. فمن ذلك قولك: مررت بظريف، فهذا أحسن من قولك: مررت بطويل؛ وذلك أن الظريف لا يكون إلا إنسانا مذكرا ورجلا أيضا، وذلك أن الظُّرف إنما هو حسن العبارة، وأنه أمر يخص اللسان؛ فظريف إذا مما يختص الرجال دون الصبيان؛ لأن الصبي في غالب الأمر لا تصح له صفة الظرف، وليس كذلك قولنا: مررت بطويل؛ لأن الطويل قد يجوز أن يكون رجلا، وأن يكون رمحا، وأن يكون حبلا وجذعا، ونحو ذلك. فهذا هو الذي يقبح، والأول هو الذي يحسن، فإن قام دليل من وجه آخر على إرادة الموصوف ساغ وضع صفته موضعه، فاعرف ذلك واعتبره بما ذكرنا.
وإنما قبح حذف الموصوف من موضعين:
أحدهما أن الصفة إنما لحقت الموصوف إما للتخصيص والبيان، وأما للإسهاب والإطناب، وكل واحد من هذين لا يليق به الحذف، بل هو من أماكن الإطالة والهضب.
واعلم أن الصفة كما تفيد في الموصوف فكذلك قد يفيد الموصوف في صفته، ألا تراك إذا قلت: مررت بغلام طويل فقد علم أن طويلا هنا إنسان. ولو لم يتقدم ذكر الغلام لم يُعلم أنه لإنسان أو غيره: من الرمح، أو الجذع، ونحوهما. وكذلك قد علم بقولك: طويل، أن الرجل طويل وليس بربعة ولا قصير، وهذا أحد ما خلط الموصوف بصفته حتى صارت معه كالجزء منه، وذلك لتساويهما في إفادة كل واحد منهما في صاحبه ما لولا مكانه لم يُفِد فيه.
ومن ذلك قراءة الأعرج بخلاف وأبي رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون، ورويت عن عاصم: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ}.
وقرأ: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} رفع وخفف النون، و{أَنَّ غَضَبُ اللَّهِ} نصب- يعقوب.
قال أبو الفتح: أما من خفف ورفع فإنها عنده مخففة من الثقيلة وفيها إضمار محذوف للتخفيف، أي: أنه لعنةُ الله عليه وأنه غضبُ الله عليها، فلما خففت أضمر اسمها وحذف، ولم يكن من إضماره بد؛ لأن المفتوحة إذا خففت لم تصر بالتخفيف حرف ابتداء، وإنما تلك إن المكسورة، وعليه قول الشاعر:
فِي فِتيَةٍ كسُيُوفِ الهنْدِ قَدْ عَلِمُوا ** أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ

أي: أنه هالك كل من يحفى وينتعل.
وسبب ذلك أن اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتصال بالمعمول فيه، واتصال المفتوحة باسمها وخبرها اتصالان:
أحدهما اتصال العامل بالمعمول، والآخر اتصال الصلة بالموصول.
ألا ترى أن ما بعد المفتوحة صلة لها؟ فلما قوي مع الفتح اتصال أن بما بعدها لم يكن لها بد من اسم مقدر محذوف تعمل فيه، ولما ضعف اتصال المكسورة بما بعدها جاز إذا خففت أن تفارق العمل وتخلص حرف ابتداء، ولا يجوز أن تكون {أنْ} هنا بمنزلة أي للعبارة، كالتي في قول الله سبحانه: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا}4، معناه أي: امشوا. قال سيبويه: لأنها لا تأتي إلا بعد كلام تام، وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ} كلام تام، وليست {الخامسة} وحدها كلاما تاما فتكون {أن} بمعنى {أي} ولا تكون {أن} هنا زائدة كالتي في قوله:
ويوْمًا تُوَافِينا بوجْه مُقَسَّمٍ كَأَنْ ** ظَبْيَةٍ تَعْطُو إلَى وارِقِ السَّلَمْ

لأن معناه والخامسة أن الحال كذلك، يدل على ذلك قراءة الكافة: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ} وأن {غَضَبَ اللَّهِ}.
ومن ذلك قراءة أبي رجاء وحُميد ويعقوب وسفيان الثوري وعَمرة بنت عبد الرحمن وابن قُطَيبٍ: {كُبْرَهُ} بضم الكاف.
قال أبو الفتح: من قرأ كذلك أراد عُظْمَهُ، ومن كسر فقال: {كِبْرَهُ} أراد وزره وإثمه.
قال قيس بن الخطيم:
تَنَامُ عنْ كُبْر شَأْنِهَا فَإذَا ** قَامَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْغَرِفُ

أي عن معظم شأنها.
ومن ذلك قراءة عائشة وابن عباس رضي الله عنهما وابن يعمر وعثمان الثقفي: {إِذْ تَلِقُونَهُ}.
وقرأ: {إِذْ تُلْقُونَهُ} من ألقيت ابن السَّمَيْفَع.
وقرأ: {إِذْ تَتَقَفَّوْنَهُ} أُمُّ ابن عيينة. قال ابن عيينة: سمعت أمي تقرأ كذلك، وكانت على قراءة عبد الله.
وروي أيضا عن ابن عيينة قال: سمعت أمي تقرأ: {إذْ تَثَقَّفُونه} قال: وكان أبوها يقرأ كما يقرأ عبد الله.
وقراءة الناس: {إذ تَلَقَّوْنَهُ}.
قال أبو الفتح: أما {تَلِقُونَهُ} فتسرعون فيه، وتَخِفُّون إليه. قال الزاجر:
جَاءَتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّامِ تَلِقْ

أي تخِف وتسرع، وأصله تَلِقُون فيه أو إليه، فحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى المفعول، كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} أي: من قومه: والهاءُ ضمير الإفك الذي تقدم ذكره.
وأما {تُلْقُونَهُ} فمعناه تُلْقُونَهُ من أفواهكم، وأما {تَتَقَفَّوْنَهُ} فتجمعونه وتَحْطِبُونَهُ من عند أنفسكم، ولا أصل له عند الله تعالى. وعليه القراءة الأخرى {تَثَقَّفُونَهُ} من ثَقِفْتُ الشيءُ، إذا طلبتَه فأدركتَه، أي تتصيدون الكلام في الإفك من هنا ومن هنا.
ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة وعيسى الهمداني وعيسى الثقفي، ورويت عن عاصم والأعمش أيضا: {ما زَكا} بالإمالة.
قال أبو الفتح: من الواو، لقولهم فيه: زكوت تزكو فأميلت ألفه، فإن كانت من الواو من حيث كان فعلا، والأفعال أقعد في الاعتلال من الأسماء من حيث كانت كثيرة التصرف، وله وضعت، والإمالة ضرب من التصرف، ولو كان اسما لم تحسن إمالته حسْنَها في الفعل؛ وذلك نحو العَفَا: ولد الحمار الوحشي، والسَّنَا: الذي يأتي من مكة. وقد تقدم نحو هذا، فهذا مثال يقاس به بإذن الله.
ومن ذلك قراءة علي والأعرج وعمرو بن عبيد وسلام: {خُطُؤاتِ} بالهمز.
وقرأ: {خَطَوَات} أبو السمَّال.
قال أبو الفتح: قد تقدم القول على ذلك فيما مضى.
ومن ذلك قراءة عباس بن عياش بن أبي ربيعة وأبي جعفر وزيد بن أسلم: {يَتَأَلّ} يَتَفَعَّلُ.
قال أبو الفتح: تأَلَّيْتُ على كذا إذا حلفتُ، والألْوَةُ والإلْوَةُ والأُلْوَةُ والأَلِيَّةُ: اليمين.
أنشد الأصمعي:
عَجَّاجَةً هَجّاجَةَ تأَلَّى ** لَأُصْبِحَنَّ الأَحْقَرَ الأَذَلَّا

أي: ولا يحلف أُولُو الفضل منكم والسعة ألا يؤتوا أُولي القربى. ومن قرأ: {وَلا يَأْتَلِ} فمعناه: ولا يقصر، وهو يفتعل من قولهم: ما ألَوْتُ في كذا أي: ما قصرت.
ومن ذلك ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا} 4 بالتاء وروي عنه بالياء.
قال أبو الفتح: هذه القراءة بالتاء كالأخرى المأثورة عنه عليه السلام: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} 5، وقد ذكرنا ذلك وأنه هو الأصل، إلا أنه أصل مرفوض استغناءً عنه بقولهم: اعفوا واصفحوا وافرحوا، ولا وجه لإعادته.
قال أبو الفتح: {الحق} هنا وصف الله {سبحانه} أي: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم وجاز وصفه {تعالى} بالحق لما في ذلك من المبالغة، حتى كأنه يجعله هو هو على المبالغة، فهو كقولنا: رجل خَصْم، وقوم زَوْر، وقوله:
فَهُمْ رِضا وَهُمْ عَدْل

وعليه قوله: {تعالى}: {إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}.
ومن ذلك قول ابن عباس: أخطأ الكاتب، إنما هي {تستأْذنوا} يعني قوله: {تستأْنسوا}.
وكذلك يروى عن عبد الله، وروي عن أُبَيّ: {حَتَّى تُسَلِّمُوا أو تَسْتَأْذِنُوا} وكذلك قرأ ابن عباس.
قال أبو الفتح: {تَسْتَأْنِسُوا} هنا معناه تطلبوا وتلتمسوا الأنس، كما أن {تستأذنوا} إنما معناه تطلبوا الإذن. فأما قولهم: قد استأنست بفلان فليس من هذا، إنما ذاك معناه أنست به، وليس المراد فيه طلبت الأنس منه. وأنس في هذا واستأنس كسخر واستسخر، وهزئ واستهزأ، وعجب واستعجب، وقر واستقر، وعلا واستعلى. قال أوس بن حجر:
وَمُسْتَعْجِب مِمّا يَرَى منْ أناتِنَا ** ولَو زَبَنَتْهُ الحربُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ

ومن ذلك قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير: {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
قال أبو الفتح: اللام في {لهن} متعلقة ب {غفور}؛ لأنها أدنى إليها، ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، فكأنه قال: فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن. ويجوز أن تكون أيضا متعلقة ب {رحيم}؛ وذلك أن ما لا يتعدى قد يتعدى بحرف الجر، ألا تراك تقول: هذا مارٌّ بزيد أمس، فتعمل اسم الفاعل وهو لما مضى؛ لأن هناك حرف الجر، وإن كنت لا تعديه فتنصب به وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في {لهن} بنفس {رحيم} وإن كنت لا تجيز: هذا رحيم زيدا، على مذهب الجماعة غير سيبويه ولأجل اللام في {لهن}.
فإن قلت: فإذا كانت اللام في {لهن} متعلقة ب {رحيم} وإنما يجوز أن ويقع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل أَفَتُقَدِّمُ {رحيما} على {غفور} وهو تابع له؟
قيل: اتباعه إياه لفظا لا يمنع من جواز تقديم رحيم على غفور؛ وذلك أنهما جميعا خبران ل {إنّ} وجاز تقدم أحد الخبرين على صاحبه؛ فتقول: هذا حلو حامض، ويجوز: هذا حامض حلو. فلك إذًا أن تقول: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم، وإن شئت رحيم غفور.
ويحسِّن ذلك هنا أيضا شيء آخر، وهو أن الرحمة كأنها أسبق رتبة من المغفرة؛ وذلك أنه {سبحانه} إنما يرحم فيغفر، فكأن رتبة الرحمة أسبق في النفس من رتبة المغفرة؛ فلذلك جاز، بل حسن تعليق اللام في {لهن} بنفس {رحيم} وإن كان بعيدا عنها؛ لما ذكرناه من كون الرحمة سببا للمغفرة. فإذا كانت في الرتبة قبلها معنًى حسن أن تكون قبلها لفظا أيضا.
فإن جعلت {رحيم} صفة ل {غفور} لم يجز أن تعلِّق في {لهن} بنفس {رحيم}؛ لامتناع تقدم الصفة على موصوفها. وإذا لم يجز أن يُنوى تقديمها عليه لم يجز أن تضع ما تعلق بها قبله لأنه إنما يجوز أن يقع المعمول بحيث يجوز أن يقع العامل فيه، وأنت إذا جعلت رحيما صفة ل {غفور} لم يجز أن تقدمه عليه؛ لامتناع جواز تقدم الصفة على موصوفها إذا كانت حالة منه محل آخر أجزاء الكلمة من أولهما، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة نصر بن عاصم: {فِي زَجَاجَةٍ الزَّجَاجَةُ}3 بفتح الزاي فيهما.
قال أبو الفتح: فيها ثلاث لغات: زَجَاجَة، وزُجَاجَة، وَزِجَاجَة: بالفتح، والضم، والكسر. وفي الجمع زَجَاج، وزُجاج، وزِجاج: كنَعامة، ونَعام، ورُقاقة ورقُاق، وعِمامة وعِمام. حكى بعضهم: وضعوا عِمامَهُم عن رءوسِهم، يريد: عمائمهم. فقد يكون كزِجاجة وزِجاج، ويجوز أيضا أن يكون جمعا مكسران كظريف وظِراف، ودرع دِلاص وأدرُع دِلاص، وناقة هِجان وأينُق هِجَان.